إن ميزة رجال السياسة الناجحين تتوقف على مدى إدراكهم لمقام التاريخ
وسطوته، وأن المناصب تغير يد صاحبها وأحيانا تستبدلها بيد خصمه، ولو
أدركنا هذه الحقيقة لتغير الكثير من الأمور في بلدنا بشكل جذري..!
في الحقيقة، إن التحدي الرئيسي الذي يواجه أحزابنا السياسية هو ارتباك
المسار السياسي والتعقيدات التي تحكم التحول الديمقراطي والحراك الحقوقي
الذي يرافقه، وارتباطه بمعطيات داخلية وخارجية، وكذا المشاكل الاقتصادية
والاجتماعية التي تفرض نفسها بإلحاح؛و قلة من قادتنا السياسيين هم من
يدركون هذه الحقائق على بداهتها، وقد جعلتنا هذه الوضعية أمام نخب تكره
الديمقراطية خوفا من فقدان مكانتها داخل السلطة والمجتمع التقليدي ، خاصة
إذا كانت تلك النخب تمتهن العمل السياسي وتجعل منه بقرة حلوبا يجب ألا
يتوقف إدرارها للحليب.
ونتيجة لهذا الفهم الخاطئ للممارسة السياسية، أضحت أحزابنا السياسية
مجرد هياكل جامدة مرتبطة بالأشخاص وربما بالأسر والعائلات ،ولا تنفخ
فيها الروح إلا أمام المناسبات السياسية ثم تعود للموت مع نهاية كل
استحقاق انتخابي ، هذا السلوك البدائي القاتل الذي تنتهجه "النخب
الانتهازية" يجب أن يتم وضع حد له ، ولن يكون ذلك إلا عن طريق تصعيد
نخبة وطنية شابة مؤمنة بالوطن ومتشبثة بالديمقراطية كمنهج للحكم والتداول
على السلطة ؛ هذا لا يعني بالضرورة أن يقدم من هم في قيادة تلك الأحزاب
استقالة جماعية ، بل يجب عليهم الإشراف على وضع خارطة طريق ومسار
انتقالي يسمح للشباب بالصعود لمراكز القيادة والتخطيط ، فاليوم معظم
أحزابنا تعيش شيخوخة منهكة أفقدتها القدرة على التواصل مع قواعدها
الشعبية وباتت أنشطتها السياسية تقتصر على البيانات وتقديم التعازي ..
إنه وضع مقلق فعلا ومنذر بموت جماعي للأحزاب الديمقراطية في البلاد ..!
ونعتقد أن الخطأ الذي ارتكبته غالبية أحزابنا "صاحبة الأسماء العريقة "
يتمثل في كونها صٌممت منذ الوهلة الأولى على أن تكون أحزابا في السلطة ،
فأفرطت في استخدام كل حماسها ومؤهلاتها للوصول للحكم ـ ولم يسعفها الحظ
في ذلك ـ فكان ذلك على حساب البناء التراكمي والتخطيط الاستراتجي فأصبحنا
فجأة أمام جثث هامدة أنهكها الإحباط وطول الانتظار ، وربما لم تعد تعني
لها الديمقراطية الشيء الكثير .
هذا الواقع المزري أتاح الفرصة أمام أصحاب الخطاب الشرائحي ، و رواد
مواقع التواصل الاجتماعي إلى صناعة خطاب يتداوله الناس على نطاق واسع
في المقاهي وداخل الصالونات وفي سيارات الأجرة ؛ بل إن بعض هؤلاء نجح في
الوصول إلى قبة البرلمان عن طريق أصدقاء صفحته ومتابعيه ، ويعلن آخرون عن
طموحهم للوصل للجمعية الوطنية عن طريق صفحاتهم الشخصية وما ينشروه
عبرها من عنف وشطط ، والأمر المقلق والمخيف في هذه الظواهر الغريبة
على الأنماط الديمقراطية كونها تتبنى خطابا عنيفا مشحونا بالبذاءة
والإفراط في تشويه الدولة والمجتمع..!
ونحن أمام هذه الوضعية المعقدة لم يعد يسعفنا إلا أن تباشر الأحزاب
السياسية التخلي الفوري عن المنهج الفردي والعدول نحو التعددية الداخلية
ومنح القيادة على أسس ديمقراطية حقيقية بعيدة عن المجاملة وسطوة الأسماء
العائلية ؛ وحتما ستكون هنالك بعض القوى التي تكره أن تتحرك الأمور نحو
الأفضل خوفا على مكانتها داخل الطبقة السياسية ، وهو أمر بديهي ومتوقع
وتجب مجابهته بمهنية ومدنية وفق مبادئ العمل السياسي بعيدا عن المهاترات
والتنابز بالبذاءات..
يقول "محمد عابد الجابري" ما مضمونه،" إن إرادة الديمقراطية تتوقف على
الوعي بضرورتها في تحريك وتيرة الحداثة السياسية مما يتيح إنتاج طبقة
سياسية حقيقية لا مجرد واجهات شكلية غير قادرة على الاستمرار، وبالتوازي
مع ذلك يتم بناء ديمقراطية الدولة المتمثلة في فصل السلطات وبناء مؤسسات
قادرة على تلبية تطلعات المواطنين بشكل يعزز التنمية ويضمن الاستقرار" .
وعلى النخب السياسية أن تدرك هذه الحقيقة وتعمل وفق منهج البناء التراكمي
والمسير المنتظم بدل سياسة الإرهاق الذاتي والموت الجماعي الذي تفرضه على
أحزابها وهيئتها السياسية .
محمد عبد الله ولد سيدي