رفات الطحالب المتراكمة في الطبقات الرسوبية للأرض، وكذلك بقايا العوالق التي ضغطتها الحرارة العالية المنبعثة من منها تحت هذه الطبقات؛ هو ما يحوّل تلك المواد العضوية إلى بخار سائل ذو رائحة حرّيفة، ولكنه ذو ثمن غال، ولا شك أن الطبيعة لم تتكلف كل هذا الزمن من أجل القيام بهذه العملية البطيئة، لكي تسيّر ثمرةُ بطن الأرض بهذه الطريقة المائلة؛ من طرف حفنة من المستفيدين، ليبقى القطاع الواسع من ساكني هذه الأرض دون علم بما تكبدته هذه الطبيعة بنفس القدر الذي يجهل به مصير هذه الثروة وطريقة تسييرها.
2022 هو أفق انتظار الموريتانيين للبذخ، وهو الزمن الرغيد الذي يحمله المستقبل دون سابق إنذار ولا جهد، لدرجة أن بعض السياسيين الكذَبة زعموا أننا بحاجة إلى آلاف الأطباء النفسيين لمعالجة الموريتانيين الذين ستتدفق عليهم الثروة لدرجة اختلال توازنهم النفسي. تصوروا!.. إنهم السياسيون، خاصة السياسيون في بلد المليون أمي، فإذا كان كيسنجر قد قال يوما “إن السياسي الحقيقي هو الذي يستطيع أن يعِد الناس ببناء جسور حيث لا توجد أنهار” فإن سياسيي “لخيام” هم القادرون على بيع الوهم والخرافة لأنفسهم وترديدها إلى أن يصدقوها هم أنفسهم!
2022 هي السنة التي سيدخل الموريتانيون فيها الجنة، وسيتحررون من “آلاف السنين في الصحراء” من الجوع والعطش، والبحث عن تفجير المكبوتات على هوامش حياتهم المسكونة باليباس والتقشف.
إنها “سنة بعث ريكاردو رييس” والصورة المعكوسة في مرآة التاريخ ل”عام الرمادة”، فابتداء منها سيبدأ الموريانيون ينثرون الغلال على السطوح حتى لا يقال إن طيرا موريتانيا جاع في بلاده، وهاجر إلى أفريقيا بحثا عن غذاء في غابات السافانا وأدغال الأبنوس.. ولكن.. ثم لكن..
لكن دعونا نلقي نظرة على هذه الثروة المكونة أساسا من مواد متبخرة.
أتذكر أنني في مرحلة الإعدادية في مادة الفيزياء قرأت مرة أن حالات المادة ثلاث: صلبة وسائلة ومتبخرة. الغاز يمكن أن يأخذ الحالتين الأخيرتين، فهو في حالة الضغط و التكثيف يصبح سائلا وفي حالة الهواء الطلق والحرية التامة والتمييع يصبح بخارا يستحيل القبض عليه.. وما علاقة كل ذلك بغاز موريتاينا سيقول البعض؟.
نعم الغاز الموريتاني يشبه الإنسان الموريتاني، إنه إنسان مستسلم وسائل وانسيابي وجزء من “الحداثة السائلة”، حين يكون هناك عسكري وحذاء خشن يفرض عليه ذلك، حتى السياسي الموريتاني تحت الضغط يصبح مطواعا وخدوما، ولكن ما إن يحس بغياب الملاحظة والمتابعة حتى يتحول و-هو كل مبادئه- إلى بخار.. يصبح كائنا بخاريا وهلاميا.. نفس الشيء يبدو أنه يحدث لهذه الثروة، التي يتم بها هدهدة بطون الموريتانيين الجوعى، فعلى الرغم من أن الاتفاق بين السلطات الموريتانية وبين الشركة المستخرجة للغاز قد تم – طبعا بمشاركة السنغال- فإنه حتى الآن لم يلفحنا عبق ذلك الاتفاق الذي تفوح منه رائحة الغاز الحرّيفة.
البرلمان لا يعلم مقتضى الاتفاقية ولا الشعب على دراية بما يجري، ولا الصحافة اهتمت بالموضوع أو تناولته (لا عليها..! إنها مشغولة بفضائح جنسية مزعومة، تهدد أمن البلد وتبذر ثرواته، أو مشغولة بعناوين من قبيل: “هههههه مدير الأمن مزرقو”).
إن الغاز إما أن يكون تحت الضغط أو ربما يتبخر كما تبخرت مواد أخرى تنتمي إلى طبيعة المادة الصلبة، لكنها في النهاية تتخذ اسمها من رائعة مارغريت ميتشل وروايتها الوحيدة والخالدة “ذهبْ مع الريح”، ومن سيكتب “حديد مع الريح”.. ؟.
نعم حتى الذهب والحديد رغم انتمائها “للحداثة الصلبة” إلا أنهما هنا انتميا “للحداثة المتبخرة” التي لم يهتد إليها زيجمونت باومان بعد.
في السنغال- والسنغال حاضر في وعينا ولاوعينا دوما- والذي يشترك مع موريتانيا في نفس حقل الغاز “السلحفاة”، فإن السنغاليين قد قاموا بأيام تفكيرية مفتوحة حول هذه الثروة وسبل تسييرها، وشارك فيها المتخصصون في المجالات (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية) وخرجوا باقتراحات عملية لإنشاء مؤسسة مسؤولة عن تسيير هذه الثروة بشكل شفاف وعلني وبالأرقام، وتم إنشاء صندوق للأجيال، قبل أن يعرض كل ذلك على البرلمان، ويناقش بالتفصيل الممل، وبالنقطة الفاصلة وكل علامات الترقيم، أما السياسيون الموريتانيون العباقرة؛ فقد استبقوا كل ذلك منذ سنوات بتعديلات قانونية تسمح لرئيس الجمهورية بتوقيع مثل هذه الاتفاقيات دون حتى الرجوع للبرلمان.. أرأيتم العبقرية؟.
بعد عشر سنوات سيخرج علينا السياسيون الموريتانيون الذين يتشكلون في مخابر الأحزاب الآن بخطاب جديد، وبقصائد مالحة لرثاء “النظام البائد”، ولتصحيح أخطاء وانحرافات خطيرة حدثت في المرحلة الماضية، سبيلا إلى إرساء تنمية البلد ووضع قطاره على سكة النماء والازدهار، وغير ذلك من مفردات معجم اللغة الميتة والمكرورة، والتي تعودنا عليها منذ أصبحت لنا آذان، ومنذ علمنا قبل أربعة عقود أننا نمر بمرحلة تاريخية ومصيرية، وبانتخابات تاريخية ومصيرية، وبمنعرج تاريخي وكارثي وجهنمي وقياماتي!
سيرث أبناؤنا نفس الخطايا الراسخة، والتي تتجدد كل ربيع وتذبل أوراقها كل خريف، في متوالية جنائزية تعري هذا الزمن العدمي، على هذه الأرض ذات الحجارة الصفراء، حيث لا يمل الوقت من تكرير نفسه، وتملّي ذاته في بحيرة العود الأبدي بإصرار نرسيسي مشبوه، وحيث لا أحد استطاع أو أراد أو طمح إلى قراءة “شفرة دافنشي” ولا “شفرة الغاز” والحديد والذهب والسمك والإنسان المقهور.
هذه أرض رشتها الآلهة بالملح حسب الأساطير القديمة، لذلك فهي لا تنبت الثوار ولا الظل، لأن الظل هو صرخة الأشجار وانتقامها من حرارة الشمس، وحنوها على الثوار، وأشجارنا بكماء وميتة!
مع ذلك هناك من ما زال يصر على أن 2022 هي السنة التي سيدخل فيها الموريتانيون الجنة.. هل تصدقون؟؟!.