من المهم استذكار انقلاب ۲۰۰۸ الوخيم. ويبدو أنّ الوجهة الآن هي لفظ النسخة الجديدة من النظام لهذه الترِكة السيئة. فالرئيس غزواني قد أعادَ الاعتبار الرمزي لسيدِ ولد الشيخ عبد الله. أما أبزر البرلمانيين الذين ساندوا الانقلاب فقد بدأوا مؤخّراً يقدِّمون رواياتٍ مراجِعة للأحكام السائدة عن الانقلاب، وبالأخصِّ صاروا يتبرأون من دورِهم الرئيس في الانقلاب. إذاً يبدو أنّهم ألقوْا بمسؤولية الانقلاب على الجنرال عزيز وحدَه، والآن يمكِنُهم أنْ يعيشوا حياةً سياسيّة طبيعية بعد أنْ مات بينوشيه! وهذا النوع من المراجعات مهم ومفيد. والأفيَد حتّى أنْ يُكتَب في مذكِّراتٍ سياسيّة لإثراء الأرشيف التاريخي. إلاّ أنّه يتعيّن هنا ذكر بعض الأشياء. فنحن أيضاً كنا هنالك، وكنّا نُغطِّي الأخبار ونتابعها بالتمحيص والمعاينة.
أوَلاً: ليس صحيحاً أنّ الجنرال عزيز قام بالانقلاب وحدَه. فقد كانت معه ذراعٌ سياسية يُنسِّقُ معها بالدوام. بل وإنّ “أزمة حجب الثقة” (ابريل-أغسطس ۲۰۰۸) لا تُفهَم بدون وجود ضمانٍ عسكري لها. بدون هذا ما كان يمكِن تعبئة البرلمانيين ضدّ الرئيس في نظام رئاسي يمكِنه فيه أنْ يسحقَهم بضربة زر. يجب أنْ نحترِم الناس.
ثانياً: ليس صحيحاً أنّ عزيزاً قام بالانقلاب فقط لأنّه عُزِل. نعم هذا العزل سرّع الانقىلاب وكان سببه المباشر. ولكن خطة انقلابٍ غير تقليدي كانت قد طُرِحت منذ مارس ۲۰۰۸، واستطاع فيها العسكر التنسيق مع البرلمانيين وحزب عادل والوجهاء التقليديين. العسكر كانوا متمرِّدين وكانوا ينسِّقون يومياً مع البرلمانيين ويُحرِّكون بيادِقهم لمدّة ستة أشهُر. لم يكن ما حدَث مفاجئاً، بل نتيجة حتمية لحركات القِطع السياسيّة.
ثالثاً: لا شكّ أنّ انتخابات ۲۰۰۷ قد اتسمت بدعم نافِذ لسيدِ ولد الشيخ عبد الله. ولكن في هذا تلطيف. فبعضَ العسكر، بما فيهم رئيس الدولة، دعم بعض المترشِحين الآخرين. وكان المجلس العسكري منقسِماً بين هذا وذاك. ولكن ما هو أهَم أنّ الرئيس أحمَد ولد داداه اعترَف بالنتائج وصارَ يلعب دورَه الدوري كزعيم معارضة. ولم يتوقّف عن هذا إلاّ في فيما بعد مارس ۲۰۰۸ عندما بدأت الأزمة السياسية. أنا كنتُ داعماً وزائراً دورياً لولد داداه. في المقابل لم تعترِف القوى السياسية بالجنرال عزيز حتّى رحيله. إنّ فكرة الاعتراف مهمة: لأنّ التحليل بقوّة الأمر الواقِع لا يكفي لتفسيرها، بل لا بدّ للقوى الحيّة من شرعية فوق الأمر الواقِع لتشريع الرئيس.
الواقِع أنّنا في ۲۰۰۷ كُنّا متوجِّهين لأول مرّة في تاريخ موريتانيا إلى انتخابات غير مضمونة أو معروفة العواقِب سلفاً. وفي الواقِع فإنّ ما حسَمها هو أصوات الثالث والرابع (أي الزين ولد زيدان ومسعود ولد بولخير، اللذيْن وجدا صفقة أفضَل عند سيدِ ولد الشيخ عبد الله). إذاً لقد حُسِمت انتخابات ۲۰۰۷ في منطِق سياسي متعلِّق بالتحالفات السياسيّة أكثر مما هو متعلِّق بهواتِف العسكر.
رابعاً: ليس صحيحاً أنّ سبب الأزمة هو إشراك سيدِ ولد الشيخ عبد الله للطائعيين. والواقِع أنّ سيدِ سبّب أزمة في النظام الطائعي عندما رفض تعيين البرلمانيين ووكلاء الناخبين الكبار في مناصِب، قائلاً إنّه لن يخون ثقة الشعب فيهم. وكانت هذه مناورة لمنعِ نظام المكافأة السياسية للمنتخَبين وأكثريتُهم من المستقلين (أي من الطائعيين). وهذا سبّب ثورة على ولد الشيخ عبد الله. كانت الطائعية ذراع العسكر الأول ضدّ نظام ولد الشيخ عبد الله منذ الانشقاقات الكبيرة التي حصلت في حزب عادل ثمّ منذ ما اصطًلِحَ عليه بالكتيبة البرلمانية. أيضاً كانت حكومة سيدِ أوَل ما انقلَب عليه بعد الانقلاب. فإذا كان هؤلاء طائعيون فإنّهم كانوا مع عزيز وبرلمانييه أكثَر مما كانوا مع سيدِ ولد الشيخ عبد الله. فقد كانوا يستخبِرون عليه أثناء العملا معه وكانوا أوَل من لفظه بعد الانقلاب عليه. بل إنّ بعضَهم عُيّن في الحكومة المنقلِبة عليه!
خامِساً: لم تظهَر فيما سُمِي في الأوساط بالكتيبة البرلمانية أية انقسامات فيما يتعلّق بالانقلاب لسبب بسيط هو أنّهم كانوا ينسِّقونه لأشهُر. ولذا فإنّهم بدأوا مباشرة يظهَرون في الإعلام المحلي والعربي والدولي مدافِعين دون استحياء عن الانقلاب. وبعض من كان أفوَهَهم في ذلك هم بالذات من يقولون الآن إنّهم كانوا بمعزَلٍ عن الانقلاب. للأسف الأحداث العلنية لا تدعم هذا. بل إنّ بعضَ البرلمانيين استتبعوا الانقلاب بمتابعتِه سياسياً بمحاكمة ولد الشيخ عبد الله وآله في محاكمات صورية وغير دستورية. هذا هو التاريخ. أما تآنيب الضمير والكوابيس والتوبة والندم فنادِراً ما تظهَر في التأريخ.
عباس ابراهام