شهدت الأسابيع الماضية احتجاجات وأنشطة عديدة لمنسقيات ونقابات للمعلّمين في انواكشوط وانواذيبُ، اعتراضًا على تقييمٍ تعتزم وزارة التهذيب الوطني القيام به من أجل تحديد مستويات المدرسين، وفقاً للمرسوم رقم 040 - 2019. حيث تعتزم الوزارة تقسيم المدرّسين إلى فئتين: فئة أ؛ أكفاء "سيقتصر تكوينهم على البرامج والمقاربات وطرق التدريس الجديدة"، وفئة ب؛ مرشحة للتكوين "ستقدم لهم خطط تكوين تشمل، إضافة إلى ما هو مقدم للفئة الأولى، تغطية ما تم تحديده لديهم من ضعف في مجالات أخرى".
فمع أن تدنّي مستوى الكثير من أفراد الأسرة التعليمية بات أمرًا مسلماً به من قبل المعلمين أنفسهم، قبل أن يكون حديث الفاعلين داخل القطاع وخارجه. وأصبح هذا التدنّي، مع عوامل أخرى، أبرز أسباب الضعف الشديد الذي يعاني منه الطلبة، وخاصة في المرحلة الابتدائية. إلا أن منسّقية التعليم الأساسي والعديد من النقابات تقف حجر عثرة أمام أي تقييم جدّي لمستويات المعلّمين، ويعتبرون ذلك "استهدافاً لوحدتهم، وارتباط مصالحهم ومصيرهم"!
هذه الحالة ناتجة باعتقادي عن فهم نقابي مختل ينتشر داخل أغلب القطاعات المهنية عندنا، للأسف. فالنقابات لها دور أساسي في الدفاع عن منتسبيها والنضال من أجل حقوقهم وامتيازاتهم. وهذا أمر مفهوم ومطلوب. ولكن مكمن الخلل هو خروج ذلك عن إطاره الأسمى، المتمثل في خدمة المواطن والرفع من شأن المهنة والقطاع المعني. فالروح النقابية يُفترض أن تكون خادمة لروح المواطنة ومنطلقة منها، لا العكس.
وهذا الأمر ليس خاصًا بالمدرسين فحسب، وإنما ينطبق على الأطباء والصحفيين والتجّار والنّاقلين وغيرهم.. وليس ملف ما يعرف بالمستشفى الكوبي منّا ببعيد. فبدل أن يضغط الأطباء المحليّون من أجل تحسين أوضاعهم المادية، على غرار نظرائهم الأجانب، وأن يناضلوا في سبيل تصحيح النواقص داخل هذه المنشأة الصحيّة التي تحتاجها الساكنة، طالب معظم ناشطيهم على العكس من ذلك بإنهاء عقود الفريق الطبي الكوبي وترحيله. وفِي الوقت الذي يتعايشون فيه مع خطايا زملائهم المحليين، ويتحدثون فيما بينهم عن موبقات تشخيصية وعلاجية وعيادات وطنية لا تمتلك حتى على وسائل تعقيم مناسبة (مع أنه لو ضويق أصحابها لانتفضوا جميعاً لنصرتهم) تجدهم مع ذلك يبحثون لهذا الطبيب الأجنبي عن خطأ هنا أو هناك للتشهير به، ويضغطون عن طريق زملائهم داخل القطاع الصحي الرسمي لإعاقة ممارسته للمهنة.
أليس من المعيب أخلاقيا ومهنيا أن يتظاهر ساكنة انواذيبُ ويحتجّ منتخبوها ضد ترحيل المختصين الكوبيين لما لمسوه لديهم في تحسّن في الخدمة الطبية، فيما يقف الطبيب المحلّي مناهضًا لذلك؟
غني عن الذكر طبعاً أن الأطباء ليسوا جميعاً موافقين على هذه النظرة الاحتكارية التي تعيق التنافسية المهنيّة الإيجابية لصالح المواطن، ولا كل المدرسين يرفضون تقويم الخلل التربوي الناجم عن ضعف مستويات بعض أفراد الأسرة التعليمية. ولكن رسوخ الروح النقابية، بمفهومها السلبي، جعل الانتماء إلى نفس المهنة صك غفران لجميع الأخطاء والخطايا. وانتقاد ذلك مدعاة لنبذ صاحبه ومحاصرته وربما التضييق عليه. وهكذا بات الطبيب والمدرس والصحفي، وغيرهم، يكتبون ويدونون ويناضلون في إصلاح جميع قطاعات الدولة الأخرى، ولا ينبسون ببنت شفة عن إصلاح اختلالات قطاعهم الخاص إذا كانت لها صلة بالمنتسبين لنفس المهنة. من هنا تعزّزت الصور النمطية السلبية عند المواطنين، وتعاظمت لديهم أزمة نقص الثقة والتعميم غير المنصف. فأصبح الأطباء غير إنسانيين حتى يثبت العكس، والصّحفيون أهل طمع وابتزاز حتى يثبت إنصافهم، والمدرسّون جهلة وغير مكترثين حتى يثبت اقتدارهم وإخلاصهم، وهكذا.. ولن تستعيد هذه المهن ثقة المواطن برأيي إلا إذا نفر من كل فرقة منها طائفة لترسّخ الروح النقابية بالشكل الإيجابي الصحيح، مناصرة لمخطئيها بالأخذ بأيديهم إلى الطريق المهني السليم، واقتراح الحلول الجادة لتجاوز قصورها الذاتي، خدمة لمهنتها وللوطن أجمع.
قد يكون من التبسيط المخلّ، أو من التماهي مع مبررات العجز الرسميّ، أن نحمّل المدرّس مسئولية ضعف المستوى التعليمي للطلبة، أو أن نعتبر الطبيب هو سبب سوء الخدمة في قطاعه، أو نرى الصحفي عنوان تردي مهنة الصحافة، أو ندّعي أن الناقل هو المتسبب الأول في حوادث السير ونزيف الأرواح على الطرقات.. ولكن لا يخفى أن لكل من هؤلاء دوراً أساسيًا في ما تعاني منه هذه القطاعات من تخلّف في الخدمة المهنية عن نظيراتها في المنطقة وفي العالم. كما أن الروح النقابية (المجاملاتية) داخل تنظيماتها وبين أفرادها من أبرز عوائق أي إصلاح جذري لتلك القطاعات المهنية. وهكذا جمع واقعنا للمواطن بين خِسّتين: قصور الحلول الرسميّة المقترحة، وإعاقة ما وجد من تلك الحلول بحجة تعارضه مع مصالح مجموعة من المنتسبين لهذه المهنة أو تلك.