يتميز الصعلوك في المخيال العربي بأنه شخص يريد أن يعيش وأن يثبت ذاته بالقوة والعنف ويحصل على ما يريد بالغارة والنهب، وهو يعتبر نفسه في سبيل الحصول على مبتغاه بحل من أي قانون، لأنه يتحرك بناءا على نزواته وطيشه حيث تتحكم فيه العواطف وتحكمه الأهواء إلى أبعد الحدود.
وليس للصعلوك الذي لا قلب ولا عقل لديه صديق أو قريب فالكل يجوز له في قانونه الخاص أن يستهدفهم أو يصنفهم ويجعلهم أعداءا إذا حالوا بينه وبين ما يريد أو قرروا أن يمنعوه أشياءهم حين يريدها، وبالتالي فان حياة الصعلوك بأكملها هي مسلسل من صناعة الأعداء.
أما الفارس فرغم انه يستمد لقبه من القدرة على حمل السلاح ومقارعة الأعداء فانه يظل محكوما إلى أقصى حد بقيم البطولة ومعايير الشرف التي تجعله يلزم نفسه بان يظل مسيرا بالقواعد في أدق تفاصيل حياته.. فهو يحب بقانون ويعادي بقانون، وهو لا يلقي الكلام على عواهنه أو يتعمد ويتلذذ بالإساءة اللفظية والفعلية للآخرين ـ كما يفعل الصعلوك ـ حيث يظل كلامه وحتى تبسمه بميزان لأن أفعاله وسلوكه صادران عن تمعن وترو .
وهكذا يرفض الفارس ـ عكس الصعلوك ـ الغدر أو المخاتلة لتحصيل فوز رخيص، كما يأنف عن مواجهة عدوه أعزلا ولو بعد أن سقط سلاحه في ساحة المواجهة وفي لحظة نزال شرس وأصبح تحت رحمته ..فالحياة عند الفارس قانون والمواجهة بالنسبة إليه لعبة أهم ما فيها قوانينها، كما يظل يرفض أن يفر آو يجبن مثل الصعلوك للنجاة بروحه حيث أن احترام قوانين اللعبة المرادفة للشرف والاستقامة أهم لديه من روحه .
ويبدو أن صفات الصعلوك والفارس هذه تنطبق إلى حد كبير على منهجين مختلفين للسياسة خبرناهما نحن الموريتانيين مع كل من الرئيس السابق والرئيس الحالي، وهما منهجان من الضروري التأمل في دلالتهما وأبعادهما على الشعب، وعلى قيم السياسة ذاتها ومنطقها كما يعتقدها ويتصرف على أساسها السياسيون لدينا منذ أربعة عقود أو يزيد.
حيث نحن مع الرئيس الأول مع نفس منطق الصعلوك في ممارسة السياسة الخارجية، حيث جعلها في فترته مسيرة ومسخرة للتعامل وفق منطق تحصيل الغنيمة حتى ولو تعارضت الوسيلة التي يتبعها هنا مع القيم والأخلاق، ولذا فانه يرى حلالا عليه النكث بإعطاء الأمان للاجئ كالسنوسي ما دام تسليمه لخصومه يمثل صفقة مربحة، كما انه من تضييع الفرص عدم المبادرة إلى إغلاق سفارة أو طرد سفير لتحصيل ثمن آو صفقات خاصة، ولأنه يتنكر لمنطق الشرف والاستقامة فان التعيينات والتحويلات والترقيات وفرض الضرائب وتحصيلها تخضع جميعها لمنطق الصعلوك في جعلها آليات للكسب الشخصي أكثر من الالتزام فيها بمنطق المصلحة العامة أو الصدور من نص وروح القانون.
وعند التمعن في سلوك الرئيس السابق نجده محكوما بسلوك الصعلوك في التلذذ بجو المواجهة والإدمان على خلق الأعداء وشيطنة مواقف الآخرين من معارضين وحتى أصدقاء مقربين وحلفاء يتم التخلص منهم تباعا (حالة أحمد ولد داداه وولد بوعماتو) الأمر الذي يبدو طبيعة متأصلة في نفس مشبعة بالعقد والنزوات لا تهتم بمصالح الناس لا في قوتهم أو أمنهم أو دوائهم .
وعلى العكس من الرئيس السابق نجدنا مع الرئيس الحالي أمام شخص يصدر من منطق وأخلاق الفروسية حيث يفرض على نفسه معاملة خصومه السياسيين باحترام كبير حيث يشيد بهم علنا في خطاباته ويحرص على دعوتهم لأهم المناسبات الرسمية ليظهر لهم من التوقير والتقدير الشيئ الكثير وليجاملهم ربما أكثر مما يفعل لداعميه وحلفائه، وبما يجعله يظهر مهتما بإضفاء جو الانسجام والوئام على أي مناسبة عامة .
ونحن هنا مع قائد يظهر زهدا كبيرا في المال العام والبعد عن منطق الصفقات والنهب في السياسة الخارجية، والميل إلى اعتماد إجراءات وممارسات يحكمها الشرف والحرص على السمعة والتقرب من الشعب حين يسافر على حسابه الخاص ويوجه التهنئة لمواطنيه على هواتفهم الشخصية.
ثم نحن فوق كل هذا وذاك مع فارس يظهر الاهتمام بالقانون ويظهر في ذلك من القوة والصلابة والحزم ما يظهره الفارس في المواجهة والنزال كما حصل في مواجهة البناء العشوائي وفوضوية سوق الأدوية بغض النظر عن حجم وقوة وعدد الأشخاص الذين سيواجههم في النزال،...ومع من يظهر القدرة التامة على التحكم في عواطفه في المواجهة حيث يستذكر أن القيم أهم من الفعل فلا يتسرع بإطلاق الأحكام و ترصد الأخطاء او إهدار اعتبار الخصم ـ كما يفعل الفارس النبيل و ضدا على موقف الصعلوك ـ كما حصل في خلافه الأخير مع الرئيس السابق في موضوع مرجعية الحزب حين الغى لقاءه مع الصحافة الدولية وضغط لمنع استبدال رئيس لجنة تسيير حزب الاتحاد من اجل الجمهورية قبل حفل الاستقلال.
وما نريد أن نخلص إليه أنه قد آن للسياسة في بلادنا أن تحكم بمنطق "الفارس" بعد أن حكمت بمنطق الصعلكة على يد أكثر من "صعلوك" كل هذا الزمن المنيف على أربعة عقود، ونحن مستبشرون أن تتصالح السياسة في هذا العهد الجديد مع القيم ومع المنطق أيضا فتحكم المعايير والاهتمام بالصالح العام وخدمة المواطن جميع التعيينات والترقيات ومعارك الفرقاء السياسيين فيما بينهم.
محمد بابا موهدا